وُضِع مجلس القضاء الأعلى يوم أمس في بوز مدفع مواجهة لم يَردها. هو المجلس الخارج لتوّه من معركة وضعته قبالة سلطة سياسية عطّلت مساره في إصدار تشكيلات قضائية غير مسيّسة أرفقت للمرة الأولى في تاريخ القضاء بأسباب موجبة والتزمت بمعايير موضوعية مكتوبة جرت على أساسها المناقلات وسبقتها مقابلات مع قضاة للمفاضلة بين أسماء, وجاهر مجلس القضاء الأعلى "بأنّه يتحمّل مسؤولية كل اسم ورد فيها".
عاصفة القاضي الذي قرّر وضع السفيرة الأميركية دوروثي شيا عند حدّها ولاقى موجة كبيرة من التعاطف والتفاعل الشعبي معه وتجاوز, على الأرجح, صلاحياته بالمسّ بالحريات الإعلامية, إنتهت باستقالة فُرِضت عليه عبر الإصرار على إحالته على التفتيش القضائي, في وقت تقول فيه مصادر قضائية "أن أي عمل قضائي يجب أن لا تكون لديه خلفية سياسية ولا يسوّق سياسيًا وأن يتمّ وفقًا للأصول مع الإلتزام بموجب التحفّظ, وهذا الأمر كان سيطرح من هذه الزاوية في حال مثول مازح أمام التفتيش القضائي".
وفق المعلومات, لم يمثل قاضي الأمور المستعجلة في صور محمد مازح أمام مجلس القضاء الأعلى كما كان مقرّرًا عند الساعة الثانية من يوم الثلاثاء بل قدّم إستقالته الخطية في ديوان مجلس القضاء وغادر.
أما السبب فهو استباق وزيرة العدل حضور مازح الى قصر العدل "بالطلب من المرجع المختصّ قانونًا (أي التفتيش القضائي) النظر في القضية وإجراء المقتضى وفقًا للأصول والقانون لمعالجة الأمر ضمن المؤسسات وضعًا للأمور في نصابها", كما قالت.
قضية القاضي مازح التي فرزت اللبنانيين بين معسكر مؤيّد ومشجّع لما قام به بالتصدي لسفيرة أكبر دولة في العالم, وبين معسكر رافض "لتجاوز حدوده والإنصياع للإملاءات السياسية", واكبها مجلس القضاء الأعلى, وفق مصادر قضائية رفيعة, "وفق ما تمليه عليه القوانين والعمل المؤسساتي".
تضيف المصادر "فقضية من هذا النوع أخذت أبعادًا حسّاسة في لبنان وخارجه وكان من أبسط الأمور أن يطلب مجلس القضاء الأعلى الاجتماع بالقاضي مازح ليستمع اليه ويفهم منه ما حدث. وهذه خطوة بديهية, أما الخطوات الأخرى, إن كان هناك أي إجراءات فتتّخذ لاحقًا, لكن ما حصل أن القاضي مازح قدّم استقالته الى مجلس القضاء الأعلى ولم يمثل أمامه, ربطًا بموقفه السابق بتقديم هذه الاستقالة في حال صدر قرار بإحالته الى التفتيش القضائي".
مواكبة "قطوع" القاضي مازح وفق الأصول هو مسار يعتمده مجلس القضاء الأعلى مع كافة الملفات منذ تعيين رئيسه القاضي سهيل عبود. هذا ما يفسّر تصلّبه في التمسّك بتشكيلات قضائية إعتبرها "صنع مجلس القضاء الأعلى" ومستعد رئيسه للدفاع عن كل اسم فيها.
لكن نكسة التشكيلات والعواصف السياسية التي تلفح الداخل وإهتزاز الوضع المالي والاقتصادي وأزمة كورونا لم تمنع مجلس القضاء الأعلى من مواكبة الملفات الأساسية وعلى رأسها مكافحة الفساد. وفي هذا السياق تفيد معلومات لموقع "ليبانون ديبايت" أن خمسة قضاة, وبعضهم في مواقع مهمّة, باتوا خارج السلك القضائي ضمن "مسيرة التنقية الذاتية المكمّلة لورشة مكافحة الفساد", كما تقول مصادر قضائية.
فأزمة كورونا لم تؤثّر على مسار هذا الملف الحسّاس حيث تعقد هيئة التأديب العليا جلسات أسبوعية. وتفيد مصادر قضائية في هذا السياق "أن هناك عقوبات تأديبية مختلفة وهناك استقالات قادت الى إخراج خمسة قضاة من السلك", مؤكدة "أن مسيرة مكافحة الفساد القضائي لم تتوقف بعكس ما أشيع, فهناك عدّة مراحل تمرّ بالتفتيش القضائي والمجلس التأديبي وهيئة التأديب العليا وهناك محاكمات تأخذ وقتًا مع مراعاة حقوق الدفاع, والمحاكمات التأديبية تجري على درجتين".
وتلفت المصادر الى "أن إثبات الفساد على أي قاضٍ ليس أمرًا سهلًا, وطريقة الإثبات صعبة ما يصعّب حصول محاسبة حقيقية تقود الى السجن".